-->

الاثنين، 10 أغسطس 2015

الفيزياء الفلكية وفيزياء الجسيمات وفلك الجسيمات

 

 

 

الفيزياء الفلكية وفيزياء الجسيمات وفلك الجسيمات

فرانسوا فانيتشي

ترجمة: عزت عامر

نقل وتنقية: عبداللطيف 


مدخل
الفيزياء الفلكية هي العلم الذي يدرس الطبيعة على مستوى ما هو بالغ الضخامة، حتى أبعاد الكون كاملاً، أي نحو 2610 متر، وبالعكس فإن فيزياء الجسيمات تستكشف المادة على مستوى ما هو بالغ الصغر، وتتيح حاليًّا الغوص إلى مسافات تصل إلى 10 -18 متر، ومن ثم فإن الفيزياء الفلكية وفيزياء الجسيمات تمثلان حدي المعرفة البشرية.
وتعتبر فيزياء فلك الجسيمات التقاء بين هذين الطرفين، وفي حين أن أهداف الفيزياء الفلكية من النوع الذي يرى بالعين المجردة[2]، مثل الكواكب و النجوم والمجرات، فإن فيزياء فلك الجسيمات تدرس أشياء مجهرية[3]، الجسيمات الأولية نفسها، ولكن بدلاً من قصرها على ما تنتجه المعجلات، أصبحت مصادرها حاليًّا في الفيزياء الفلكية، وعمليًّا تطور هذا النظام حديثا بفضل علماء فيزياء الجسيمات الذين كانوا - بالنسبة للبعض - يشعرون بالضيق بالقرب من المعجلات، والذين بدلوا تقنيات الرصد لمراقبة الظواهر العنيفة التي تظهر في السماء.
وتستخدم الفيزياء الفلكية الضوء كوسيط للمعلومات، أي الفوتونات التي تنتمي إلى المجموعة المرئية، أو القريبة من المرئية، التي ترصدها أجهزة بصرية، ألواح فوتوغرافية CCD  ، وتستعين فيزياء فلك الجسيمات بِمجموعة أكبر من الوسائط، فوتونات ذات طاقات عالية، ولكن أيضًا ببروتونات أو نوى ذرية، وإلكترونات وجسيمات النيوترينو، وهدف هذه الفيزياء مزدوج، فهي تتيح في الوقت نفسه فهمًا أفضل لمصادر هذه الإشعاعات؛ أي الظواهر في بداية التَّسارُعات الهائلة، ولكن أيضًا تنقيح المعرفة بخواص الجسيمات نفسها المنتجة في شروط يستحيل الحصول عليها على الأرض.
مثالان
إشعاعات جاما ذات الطاقات العالية:
الفوتونات المرئية هي الوحيدة التي يمكنها اختراق الغلاف الجوي دون أن يحدث لها امتصاص، وبالنسبة لأطوال الموجات الأخرى فإن دراستها تتم في قمر صناعي حيث شروط الرصد مثالية، لكن الأقمار الصناعية محدودة الأبعاد، ويكون تدفق الفوتونات ذات الطاقات العالية على درجة من الضآلة، بحيث يكون من الضروري إعداد أسطح اكتشاف كبيرة لإحصاء عدد كافٍ من الأحداث، وتتضاعف الفوتونات النشيطة في الغلاف الجوي وينتج عن ذلك حزمة توصف بأنها كهرومغناطيسية يمكنها - في حدودها القصوى - أن تصل إلى ملايين الجسيمات، وبشكل أساسي الإلكترونات والبوزترونات، ويكون لهذه الجسيمات أيضًا طاقة كافية لإعطاء طول لمسارها الضوئي الذي يمكن رصده بواسطة لواقط تغطي أسطحًا واسعة، ومن هذا النوع من الأجهزة، ما يطلق عليه Cat  ، وهو يعمل على سفوح جبال البيرنيه Pyrenees  ، في حين أنه بالنسبة للضوء المرئي يمكن حصر مليارات المصادر، بالأشعة السينية، ويبقى هناك عدة آلاف، ولا يتم حاليًّا سوى اكتشاف أربعة مصادر مؤكدة ذات طاقة تصل إلى 1410 إلكترون فولت eV  ، وبشكل خاص بولسار pulsar  ، وكوكبة السرطان le Crabe  ، ونواتين نشيطتين للمجرتين MK 421   و  501  ، اللتين تفاجآننا بالتنوع بالغ الاتساع فيما تبثانه، ومع وصول طيف الفوتونات إلى الأرض، فإنه يعطي من جانب آخر معلومات حول الوسط الذي اجتازه.
تمت دراسة الأشعة الكونية المشحونة منذ بداية القرن العشرين، وإن كان الكثير من علماء الفيزياء قد تحولوا إلى المعجلات في منتصف القرن، فإن بعضهم كان يرصد من السماء من جديد، مما أتاح طاقات لا يمكن لأي معجل أن يصل إليها، ويمكن حاليًّا كشف جسيمات، وربما فوتونات، تصل إلى طاقات 50 جول J  ، وهي طاقة كرة تنس لم تعد صالحة!
ورصدت بعض الأشعة الكونية تتخطى 2010 إلكترون فولت، وهي تمثل مشكلة، لأنه لا يمكنها أن تأتي من مصادر بعيدة جدًّا؛ بسبب الامتصاص الملازم للأعماق الكونية؛ ولكن من جانب آخر لا نعرف ظواهر تسارع ذات قوة كافية في المناطق القريبة منا، وتفسرها بعض النظريات على أنها شواهد على ظواهر ترتبط بالانفجار العظيم.
وحتى نأمل في حل اللغز الراهن يجب تجميع إحصاءات كافية، غير أن هذه الأشعة نادرة جدًّا؛ حيث إنها تقصف الأرض بواقع 1 لكل كيلومتر مربع وكل قرن، لذلك يجب تجهيز أسطح تجميع واسعة جدًّا، وتم تكريس مرصد أوجير Auger   لإعداد أجهزة على مساحة 3000 كم2 على هضبة في الأرجنتين، والشعاع الكوني ذو الطاقة المذكورة هنا ينتج إجماليًّا مليارات من الجسيمات الثانوية، ويرش الأرض على مساحة 10 كم2 تقريبًا، ويتكون الكاشف detecteur   من شبكة لاقطات capteurs   يبعد كل منها عن الآخر بمسافة 1.5كم.
لغز النيوترينو
يمكن اعتبار جسيمات النيوترينو جسيمات فلكية "مثالية par excellence  "؛ لأنها توجد في كل مستويات الكون، وهذا ما يجعل النيوترينو الجسيم، عدا الفوتون الأكثر شيوعًا، وهناك مصدران شديدا القوة هما السبب وراء هذا الانتشار الذي لا حد له.
أولاً: تأتي الشمس، فهي التي ترسل إلينا في كل ثانية 60 مليارًا من "جسيمات النيوترينو الشمسية"[4]، على كل سم2 من أرضنا، وتنتج عن تفاعلات الاندماج، وهي أصل الطاقة التي تسبب لمعان نجمنا، وتقوم تنبؤات التدفق على حسابات معدة جيدًا، حتى إن علماء النظرية يؤكدون أنه يمكن الاعتماد عليها إلى أجزاء من مائة تقريبًا، ويخترقنا هذا التدفق سواء في النهار أو في الليل؛ لأن الأرض شفافة بالنسبة لجسيمات النيوترينو.
ويبث سوبرنوفا من النوع الثاني "2أ" IІa   كل طاقته تقريبًا بإطلاق 5810 "جسيمات نيوترينو مجرية"[5] في بضعة ثوانٍ، وفي فبراير 1987 وقع مثل هذا الانفجار على بعد 150000 سنة ضوئية من أرضنا، في سحابة مجلان العظمى grand nuage de Magellan  ، وهكذا نتج نحو عشرين من جسيمات النيوترينو تم اعتراضها في أجهزة كشف ضخمة تحت الأرض.
وتنتج جسيمات نيوتروينو الغلاف الجوي "جسيمات النيوترينو الأرضية"[6] من قصف الأشعة الكونية الأولية التي كانت موضوع كلامنا سابقًا، في الطبقات الأكثر ارتفاعًا من الغلاف الجوي، وتتفاعل البروتونات لتعطي رخات تتفتت بسرعة، وينتج عن ذلك تدفق نحو 1 نيوترينو كل دقيقة لكل سنتيمتر مربع.
ويمكن أن تنشأ جسيمات نيوترينو أيضًا من مصادر خارج المجرات وهي غامضة أيضًا، مثل نوى المجرة النشيطة والثقوب السوداء، وبالنسبة لها أيضًا ما زال التجريب يتعثر.
ويجب ألاَّ ننسى الإنسان "وجسيمات النيوترينو البشرية"[7]، وينتج التفاعل النووي EdF   ما يقرب من 2010 (مضاد) نيوترينو في الثانية، بدون أي خطر على البيئة، وتسمح المعجلات بإنشاء حزم يمكن السيطرة عليها جيدًا، والتي تبدو ملائمة أكثر للأبحاث الأكثر دقة المتعلقة بخواص هذه الجسيمات.
وفيما وراء كل هذه المصادر المتنوعة، فإن المنتج الأكثر غزارة في إنتاج هذه الجسيمات هو الانفجار العظيم، الذي وقع منذ نحو 14 مليار سنة، ونعرف عن طريق علماء الفيزياء الفلكية أن الانفجار الكبير الأصلي ترك 300 من "جسيمات" النيوترينو الكونية"[8] في كل سم3 في الكون، وقد تبدو هذه الكثافة ضئيلة بالنسبة لكثافات الجسيمات في المادة المألوفة، لكنها إذا أدمجت في كل حجم الكون ينتج عن ذلك تعداد نيوترينو أكثر غزارة عدة مليارات من البروتونات، والنيوترونات والإلكترونات التي تكون الذرات.
كيف نهتدي إلى طريقنا وسط كل هذه الأنواع من جسيمات النيوترينو؟ بالصدفة فإن هذه التعدادات المختلفة تتدرج في مراتب من الطاقة يمكن تمييزها جيدًا، كذلك فإن جسيمات النيوترينو الكونية هي التي تتميز بالطاقة الأكثر ضعفًا بالميللي إلكترون فولت، بينما علينا أن نتوقع أن تصل الطاقات إلى إكسا exa   إلكترون فولت بالنسبة لجسيمات النيوترينو خارج المجرات، وبين هذين الطرفين تتجمع جسيمات النيوترينو حول 1 ميجا إلكترون فولت MeV   وجسيمات نيوترينو الغلاف الجوي حول 1 جيجا إلكترون فولت GeV  .
وهذه هي المفارقة المتعلقة بجسيمات النيوترينو: فهي تحيط بنا بأفواج لا حصر لها، ومع ذلك فلا تأثير لها علينا البتة؛ لأنها لا تتحمل سوى التفاعل الموصوف بأنه ضعيف، ويتوقف نيوترينو واحد 1 جيجا إلكترون فولت من بين 100000 نيوترينو خلال عبور الأرض، ومن هنا يأتي وصف الشبح الذي كثيرًا ما يخصص لهذا الجسيم المتلاشي، واحتمال التفاعل ضعيف لكنه غير منعدم، وإلا ما كنا نعرف أي شيء عن هذه الجسيمات؛ لذلك وبفضل التدفقات بالغة الشدة الناتجة بالقرب من المعجلات القوية، وبفضل الكشافات الضخمة لدينا الآن ملايين التفاعلات المسجلة لجسيمات النيوترينو خلال عدة أجيال من التجارب، التي تحلل بالتفصيل خواص قرانها بالمادة.
وقد ينتج نيوترينو أحيانًا خارج تفاعله إلكترونًا محددًا: إنه نيوترينو إلكتروني ve  ، وتارة يعطي التفاعل ميونًا muon  ، وهو النيوترينو الميوني vμ  ، الذي يعتبر هنا تابعًا.
فهل تنتهي الحكاية عند ve   وvμ  ؟ لقد تم قياس عدد أنواع جسيمات النيوترينو الموجودة في الطبيعة بدقة بفضل معجل المختبر الأوروبي لفيزياء الجسيمات CERN  ، والذي يطلق عليه LEP  ، والنتيجة النهائية: 2.990 ± 0.016، ويأتي هذا القياس من دراسة  Z o ، البوزون المتعادل وسيط التفاعلات الضعيفة الناتج خلال تصادمات +e   و-e ، والذي يتفتت في شبه لحظة، ويعتمد طول هذا المنحنى على هيئة الناقوس على عدد جسيمات النيوترينو، وكلما كانت هناك أنواع مختلفة، كلما أصبح المنحنى مستويًا، ويتيح تركيزه استخلاص العدد الكلي لجسيمات النيوترينو الذي يكون أكثر ارتفاعًا، كذلك تحتوي الطبيعة على 3 من جسيمات النيوترينو المختلفة، و3 فقط من التي يطلق عليها ve   وvμ   وvV  .
تجربة كاميوكاند الفائقة والتذبذبات
لأن هناك ضرورة لإنشاء كاشفات ضخمة للحصول على عدد كافٍ من التفاعلات، فلنصف التجربة الطموحة التي أعطت النتائج الأكثر إقناعًا في مجال جسيمات النيوترينو الشمسية، وجسيمات نيوترينو الغلاف الجوي: تجربة كاميوكاند Kamiokand   الفائقة التي أنشئت في منجم زنك تحت جبل ياباني بالقرب من قرية كاميوكا الصغيرة، وبدأ استخلاص معطيات التجربة في أبريل 1997، وتضمن هذا الجهاز كتلة عملاقة نحو 35 مترًا في 35 مترًا في 40 مترًا مليئة بالماء النقي، يراقبها بشكل دائم أكثر من 11000 أنبوبة كهربائية ضوئية لمضاعفة الإلكترونات[9]، وهي لواقط يمكنها كشف وجود بضعة فوتونات مرئية، إنها كاتدرائية واقعية تحت الأرض، خلال طور حشو الجدران بلبنات البناء، وفيها اختصاصيون فوق زورق خفيف يقومون بآخر عمليات الضبط للأجهزة الكهربائية الضوئية لمضاعفة الإلكترونات قبل أن يغطيها الماء.
وينتج النيوترينو المتفاعل داخل الماء جسيمات مشحونة من أنواع مختلفة تعطي - إذا كان لها طاقة كافية - خلال اختراقها للماء فوتونات مرئية ناتجة عن ظاهرة يطلق عليها سيرينكوف Cerenkov  ، وتشبه هذه الظاهرة انبعاث موجة صدمة كهربائية، وتتولد في كل مرة ينتشر فيها جزيء في وسط بسرعة أعلى من سرعة الضوء في هذا الوسط، وفي حالة الماء هذه، ينتشر الضوء بسرعة 220000 كم/ ثانية، ويتجاوز إلكترون شحنته 1 ميجا إلكترون فولت هذه السرعة، ويظهر مخروط ضوئي بطول المسار، تنتج عنه حلقة فوتونات على مستوى الأجهزة الكهربائية الضوئية لمضاعفة الإلكترونات.
وهكذا يقاس تدفق جسيمات النيوترينو الشمسية أعلى من طاقة 5 ميجا إلكترون فولت، غير أننا لا نحصر سوى متوسط التدفق الذي يتنبأ به علماء النظريات.
وفي تشكيلة الطاقة بين 100 ميجا إلكترون فولت، وبضع جيجات إلكترون فولت، نكشف إشارة آتية من جسيمات نيوترينو غلاف جوي، وفي هذه الحالة الأخيرة تنتج تفاعلات جسيمات النيوترينو vμ   ميونات، وتنتج تفاعلات جسيمات النيوترينو ve   عن إلكترونات، من هنا فإن الميونات والإلكترونات تعطي حلقات مميزة بما يكفي لأن نتمكن من حصر حالات ظهور جسيمات النيوترينو vμ  ، والنيوترينو ve   مستقلة عن بعضها.
من جانب آخر ينبئ اتجاه الجسيم الذي يتم كشفه عن اتجاه النيوترينو، الذي أفسح المجال للتفاعل - على الأقل في الطاقات العالية الكافية - ومرة أخرى لا تكون النتائج متسقة مع التنبؤات، وتكشف تجربة كاميوكاند الفائقة جيدًا جسيمات النيوترينو الإلكترونية على المستوى المتوقع؛ لكنها فيما يبدو تظهر نقص جسيمات النيوترينو من النوع الميوني، وقدمت التجربة دليلاً إضافيًّا قاطعًا، تنشأ جسيمات نيوترينو الغلاف الجوي من كل الاتجاهات، حيث إنها ناتجة عن كل محيط الأرض، وعمليات إعادة التجميع هذه التي تبدو قادمة "من فوق" تنشأ في الجو الواقع مباشرة فوق موقع التجربة، وتكون قد اجتازت مسافة نحو 10 كيلو مترات قبل كشفها، وتلك التي تنشأ "من أسفل" تنتج في "المتقابلان"[10] لذلك تجتاز ما يصل إلى 10000كم قبل وصولها إلى جهاز التجارب، غير أن النقص يظهر في vμ   "من أسفل"، التي تكون قد اخترقت كل الأرض؛ أي جسيمات النيوترينو التي تجتاز مسافات شاسعة قبل كشفها، وقليلاً جدًّا ما تتفاعل جسيمات النيوترينو مع المادة، ولم يكن من الواجب رصد نقص.
ومن ثم ظهرت جسيمات النيوترينو الشمسية والجوية جيدًا، لكن في الحالتين يمثل التدفق الذي يتم قياسه شذوذًا بالنسبة إلى التدفق المتوقع، ويمثل الحصول على تطابق بعامل 2 تقريبًا بين القياسات الدقيقة والتنبؤات المختلفة نجاحًا كبيرًا حتى الآن، ومع ذلك فإن علماء الفيزياء غير مسرورين بهذه النتيجة، ويبحثون عن تفسير لعدم التوافق هذا.
ونجد جسيمات نيوترينو أقل مما نتوقع، ويبدو جزئيًّا أنها اختفت بين مصدر إنتاجها ونقطة الكشف، إلا إذا كان بعضها - خلال رحلتها - قد تغير نوعه، والكاشفات الحالية لجسيمات النيوترينو الشمسية غير حساسة بالفعل إلا بالنسبة للنوع ve  ، ومن المحتمل أن ve   الناتجة في داخل الشمس قد تحولت إلى vμ   قبل وصولها إلى الأرض، وبالطريقة نفسها يمكن تفسير دلالات تجربة كاميوكاند الفائقة كما لو كانت تحول vμ   إلى vτ   التي تفلت عند الكشف، عبر مسافات تصل إلى قطر الأرض.
وظاهرة التغير التلقائي هذه لنوع من النيوترينو إلى نوع مختلف، يطلق عليها التذبذب oscillation  ، وهذه العملية مسموح بها في ميكانيكا الكم حيث إن لجسيمات النيوترينو كتلة، واحتمال حدوث هذه الظاهرة يعتمد على فرق مربعي الكتلتين بين نوعي النيوترينو المتذبذبين، وتتسم هذه الآلية بأهمية كبيرة؛ لأنها تتيح تقدير اختلافات كتل صغيرة جدًّا، لا تتيحها كل الطرائق الأخرى، ومن هنا فإن السؤال الذي يطرح في الوقت الراهن حول جسيمات النيوترينو يتعلق على وجه الدقة بكتلها، والمعروف فقط أنه إذا كانت هذه الكتلة موجودة، فلا بد أن تكون صغيرة جدًّا.
والتفسير المقبول عادة لنقص جسيمات ve الشمسية؛ بسبب ظاهرة التذبذبات يقود إلى علاقة بين الكتلتين m1   وm2  ، والحالتين المناظرتين لـ ve   و  vμ  :
  m22   - m21  = 5. 10-5  eV2     



وبالنسبة لجسيمات نيوترينو الغلاف الجوي فإن نقص vμ المرصوديشير إلى علاقة ثنائية بين كتلتي جسيمي النيوترينو المتذبذبين:
 m`22  -  m`21  =    3. 10-3   eV2  


وتنطبق بالأولى على الحالتين أنفسهما المناظرتين للزوج vμ و  ve .
وتجرى أبحاث التذبذبات في مجال فعال جدًّا، والكثير من أجيال التجارب بحثت عن تأثيراتها، سيان بالقرب من المفاعلات أو بالقرب من المعجلات، بدون إظهارها، والموقف الراهن ليس واضحًا بالكامل، ومن المتوقع الحصول على إشارة إثبات مطلوبة من تجربة كاميوكاند الفائقة، ويجب أن تأتي من البرامج الجاري إنجازها في اليابان أولاً ثم في المختبر الأوروبي لفيزياء الجسيمات CERN  ، والولايات المتحدة الأمريكية، والتي تحتاج إلى مسافات طيران شاسعة؛ لكي تكون حساسية بالنسبة للكتل الصغيرة جدًّا، وكذلك سوف تطلق في 2005 حزمة منتجة في جينيف، باتجاه نفق جران ساسو Gran Sasso   بالقرب من روما، تتيح لجسيمات النيوترينو 370كم لتتذبذب، والكاشفات المبتكرة على مستوى المشكلة.
هل هي نهاية الفيزياء؟
خلال السنوات المائة الماضية، كانت التطورات في المعارف العلمية مدهشة، وبالمقدار نفسه فيما يتعلق بتخوم متناهي الضخامة ومتناهي الصغر، تم إحراز ثماني مراتب في الضخامة، فنحن نميز الآن تفاصيل أكثر دقة مائة مليون مرة مما كان الأمر عليه منذ مائة عام، ويمكننا الاقتراب من لحظة الانفجار العظيم نفسه، ويبدو أن تخوم المعلوم قد وصلت منذ الآن إلى حدودها، ولا يمكن التفكير بالفعل في الذهاب إلى ما وراء الانفجار العظيم، ويتعثر أكثر فأكثر مبحث اللانهائي الصغر أمام حائط الضخامة.
ولا يمكن إنكار أن القرن العشرين سيعتبر قرن الفيزياء، وبدأ القرن الحادي والعشرون بكشف شفرة الجينوم البشري، ويطلق عليه البعض قرن البيولوجيا، ونظرًا إلى أن البيولوجيا غنية بالوعود، تصل بعض العقول الجسورة إلى مواجهة الخلود في حين أن إسقاطات فيزياء فلك الجسيمات تبدو خادعة، ويبدو المجال كما لو كان تسلية بالنسبة لعلماء الفيزياء.
ورغم أن الفيزياء لم تفش كل أسرارها، ربما نكون في عشية ثورة كوبرنيكوسية جديدة، حقًّا فإن الكون - كما يبدو - مليء بنسبة 95 في المائة بمادة سوداء، تم كشفها عن طريق السرعات غير الطبيعية لدوران مجرات سماوية في المجرات، ومن طاقة سوداء ناتجة عن دراسات نجوم السوبرنوفا البعيدة مما يشير إلى أن تمدد الكون هو تسارع.
وفي هذه الحالة فإن المادة والطاقة الأسودين لا تمتان بصلة، على ما يبدو بمادتنا العادية، والخلاصة أنه حتى عالمنا الذي تمت دراسته خلال القرون الماضية يبدو أنه لا يمثل سوى جزء بالغ الصغر من الكون.
وفي غضون بعض الوقت نأمل أن تستطيع جسيمات النيوترينو تفسير المادة السوداء، وبالفعل فإن سيناريو الانفجار العظيم، بتنبؤه بتعداد لجسيمات النيوترينو أكثر انتشارًا بمليارات المرات من الجسيمات الأخرى، بكتلة تقترب من 10 إلكترونات فولت، كان كافيًا لأن تتجاوز الكتلة الكلية لجسيمات النيوترينو كتلة المادة المرئية، وتؤثر من ثم على مصير الكون، وكان هذا السيناريو مفضلاً قبل نتيجة تجربة كاميوكاند الفائقة، ويبدو أن الخبرة اليابانية تشير حاليًّا إلى مساهمة هامشية لجسيمات النيوترينو في كتلة الكون، مع أنها تقترب من الكتلة المرئية، تلك التي تتكون من النجوم في مجملها.
لذلك تم بحث المادة السوداء في اتجاهات أخرى: الجسيمات الافتراضية مثل الأكسيونات[11]، أو الجسيمات فائقة التماثل supersymetriques  ، أما عن الطاقة السوداء فهي حاليًّا لغز كامل.
ومن ثم ما زال هناك ألغاز كبيرة تستطيع الفيزياء أن تحلها، وعليها أن تفعل ذلك؛ لكن بالنسبة للبعض يبدو هذا البحث كأنه أمر خفي إلى درجة كبيرة، ومقطوع عن المشاغل التي ثبتت أهميتها، ومع ذلك فإن كشف أسرار الكون يعتبر بالنسبة للإنسان أمرًا مثيرًا للحماس أيضًا مثله مثل نظم قصيدة، أو تأليف سوناتة[12]، وتبرير مثل هذا البحث يقع في مجال إثراء المغامرة الإنسانية، ولا يجب كبح الفضول العقلي، فالمعرفة ثمينة جدًّا، ويمكن أن نأمل أنه في يوم ما عندما يكون العلم قد أجاب على كل أسئلة "كيف comment  " عن الطبيعة، ويصبح السؤال "لماذا pourquoi  " أكثر وضوحًا، وفي هذه الحالة يطرح السؤال الأساسي عن الإنسان.

[1]   نص المحاضرة رقم 185 التي ألقيت في إطار مشروع جامعة كل المعارف بتاريخ 3 يوليو 2000.
[2]   يرى بالعين المجردة macroscopique  ؛ أو مرئي بالعين. (المترجم)
[3]   مجهري microscopique  ؛ غير مرئي إلا بالمجهر. (المترجم)
[4]   جسيمات النيوترينو الشمسية helioneutrino  . (المترجم)
[5]   جسيمات النيوترينو المجرية galalctoneurinos  . (المترجم)
[6]   جسيمات النيوترينو الأرضية geoneutrinos  . (المترجم)
[7]   جسيمات النيوترينو البشرية anthroponeutrinos  . (المترجم)
[8]   جسيمات النيوترينو الكونية cosmoneutrinos  . (المترجم)
[9]   جهاز كهربائي ضوئي photomultiplicateur   لإمرار تيار كهربائي بواسطة سائل مضيء لمضاعفة الإلكترونات. (المترجم)
[10]   المتقابلان antipodes  : مكانان على سطح الأرض يقعان على طرفي خط مستقيم وهمي يمر بمركز الأرض. (المترجم)
[11]   الأكسيون axion  : جسيم أولي افتراضي ليس له شحنة، ولا لف، ويتفاعل مع المادية العادية (الإلكترونات، والفوتونات، والكواركات... إلخ)، لكن تفاعله ضعيف جدًّا، ورغم أن الأكسيون - في حالة وجوده - من المفترض أن تكون له كتلة بالغة الصغر، فإنه لا بد أن الأكسيونات كانت غزيرة في الانفجار العظيم، وما تخلف منها ينافس عن جدارة المادة السوداء في الكون. (المترجم)
[12]   سوناتة sonate  : لحن موسيقي لآلة أو آلتين؛ كالكمان والبيانو. (المترجم)
تعليقات فيسبوك
0 تعليقات بلوجر

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

إتصل بنا

الإسم الكريم البريد الإلكتروني مهم الرسالة مهم
كافة الحقوق محفوظةلـ موقعنا جميعا 2016
تصميم: حميد بناصر